المادة    
الإِنسَان محتاج وفقير ومضطر، ولا بُدّ أن يدعو غيره وأن يلجأ إليه وأن يتوسل به، وهذا هو أصل عبودية أي عابد، ولهذا فإن العبودية لا تكون عبودية إلا أن يتحقق فيها شرطان هما: الحب من جهة، والخضوع والذل من جهة أخرى.
فإذا أحب إنسان شيئاً ولم يخضع له وينقاد فهذا لا يسمى عابداً، ولو أن أحداً خضع وذل وانقاد لأمر وهو كاره له فهذا لا يسمى عابداً أيضاً، فالعبودية: معناها أن يجتمع في الإِنسَان كمال الحب مع كمال الذل والخضوع، فالنّاس هذا حالهم وهذا شأنهم، أما أهل التوحيد فإنهم أخذوا الأسباب والأمور من مصادرها الصحيحة وعملوا بالأسباب وطلبوها من خالقها سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فأهل التوحيد من الأَنْبِيَاء والصالحين ومن اتبعهم يعلموا أن كل شيء بيد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وأن افتقاره هذا لا يكون إلا لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، لأن كل مخلوق مفتقر إِلَى من يقضي له حاجاته، فكلنا فقراء لله تَعَالَى.
  1. الموحد الحقيقي الصادق

    الموحد الحقيقي المخلص هو من يدعو ويرفع حاجته إِلَى الغني الحميد سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كما قال الله: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ))[فاطر:15] {يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم، يا عبادي كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم، يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم}.
    ويقول بعد ذلك: {يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا عَلَى أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا عَلَى أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا عَلَى صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل واحد منهم مسألته ما نقص ذلك من ملكي شيئاً إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر} هذا هو غاية الكرم، مع غاية الغنى، فالغنى والكمال المطلق هو لله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- فهو الغني الحميد،
    فأهل التوحيد والإيمان أدركوا أن الله بيده خزائن كل شيء -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-، وهو الذي بيده مفاتح الغيب وهو وحده الرزاق ذو القوة المتين كما قال عن نفسه: ((وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا)) [هود:6].
    إن دُعيَّ الملائكة، فهم عباد مكرمون عند الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؛ ولكنهم لا يعصون الله ما أمرهم أبداً، هم عباد من عباد الله يرجون الله، وهم من خشيته مشفقون، ولا يعصون أمره، ولا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً، وإن عبد الأنبياء، فالأنبياء بشر مثلنا، عاشوا عَلَى هذه الأرض كما نعيش، ولاقوا من المحن والشدائد ما جعلهم يلجأون إِلَى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ليكشف عنهم ذلك الكرب وذلك الضر، والأولياء أو الصالحون لا شك أنهم أدنى درجة من الأنبياء، فقضية التوحيد واضحة لِمَن بصَّره الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وتفكر وتأمل، أمرٌ جلي واضح أن المسئول المدعو هو الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى سواء كَانَ ذلك دعاء عبادة أو دعاء مسألة فالأمر يرجع كله إِلَى حاجة المخلوقين واضطرارهم وافتقارهم إليه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
  2. حقيقة وقوع الناس في الشرك

    إذا لجأ الفقير إلى فقير مثله، ولجأ الضعيف إلى ضعيف مثله، أو نصب الضعيف نفسه إلهاً من دون الله، وقَالَ: ادعوني وأنا أجيبكم، فهذا إخلال بالتوحيد، وهذا لا يفعله إلا من لم يقدِّر الله حق قدره، ولم يفقه حقيقة التوحيد ولا آمن بالله تَعَالَى حق الإيمان، وإن زعم ذلك كما قال تعالى: ((وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ)) [يوسف:106] هذه حقيقة واقعة، ووقوع النَّاس في الشرك ظناً منهم أن غير الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يحقق لهم ما يريدون، هو الذي جعلهم يجرون وراء السراب وظنوا أن هذا الغير أياً كَانَ يُتوسط ويتوسل به إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فيحقق لهم ما يريدون.
    فإذا اعتقد العبد المؤمن وعرف واستيقن أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هو وحده المدعو المرجو الذي يخاف ويرجى ويدعى ويستغاث ويلاذ ويستجار به، فإنه بعد ذلك لا يحتاج إلى أن يدعو غير الله، ولا أن يتوسط أو يتوسل إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بغيره، وهو {الذي يبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، ويبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار}، فليس هنالك أكرم ولا أحلم من هذا الإله.
    وبعد ذلك ذكر حال المدعوين المعبودين من دونهم فقَالَ: ((أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ))[الإسراء:57].
    فهذه الوسيلة إلى هذا الإله الجليل العظيم سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ومع هذا الكرم والفضل والمنِّة هل يسد الطرق الموصلة إليه التي يتوسل أو يتوسط بها العبد إليه فلا يبقى إلا أن يُدعَى ويعبد غيره أو يستشفع إليه بغيره. هل يليق ذلك بكرمه وبفضله وإنعامه، وهو الذي يمد هَؤُلاءِ وهؤلاء، وهو الذي يغيث الكفار إذا دعوه فضلاً عن المؤمنين؟! لا يليق به سبحانه أبداً؛ ولكن هذا من عمى البصائر.
  3. تفسير المبتدعة لقوله تعالى : (( وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ ))

    لقد فسر المُشْرِكُونَ قوله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ)) [المائدة:35] بقولهم أي: ابحثوا عن مخلوق تتوسلون به إِلَى الله سُبْحانَ اللَّه!
    ولما ذكر الله حال عبادة المؤمنين من الأَنْبِيَاء والملائكة والصالحين قَالَ: ((أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ))[الإسراء:57] يدعونه بأسمائه الحسنى، كما في الحديث {اللهم إني أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحداً من خلقك} أي أن تسأل الله بأسمائه.